فصل: باب كيفية قسمة الغنيمة وبيان من يستحقها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح السير الكبير **


  باب كيفية قسمة الغنيمة وبيان من يستحقها

ممن جاء بعد الإصابة وإذا وقع القتال في دار الإسلام بين المسلمين وأهل الحرب فالغنيمة لمن شهد الوقعة ولا شيء لمن جاء بعد الفراغ من القتال لأن بنفس الإصابة تصير محرزة بدار الإسلام فمن يلحق بعد ذلك مدداً فهو لم يشارك الجيش في الإصابة ولا في الإحراز‏.‏

وكذلك لو فتح المسلمون أرضاً من أرض العدو حتى صارت في أيديهم وهرب أهلها عنها لأنها صارت دار الإسلام بظهور أحكام الإسلام فيها فتصير الغنائم محرزة بدار الإسلام قبل لحوق المدد‏.‏

وكذلك لو أصابوا غنائم فأخرجوها إلى دار الإسلام ثم لحقهم مدد لأن بالإحراز باليد قد تأكد حقهم فيها‏.‏

ولهذا لو مات بعضهم كان نصيبهم ميراثاً‏.‏

فأما إذا أصابوا الغنائم في دار الحرب ثم لحقهم مدد قبل الإحراز وقبل القسمة والبيع فإنهم يشاركونهم في المصاب عندنا لأن الحق لا يتأكد بنفس الأخذ فإن سبب ثبوت الحق القهر وهو موجود من وجه دون وجه لأنهم قاهرون يداً مقهورون داراً‏.‏

ألا ترى أنهم لا يتمكنون من القرار في تلك البقعة وتصييرها دار الإسلام فإنما تم السبب بقوة المدد وكانوا شركاءهم ولهذا قلنا من مات منهم في هذه الحالة لا يورث نصيبه وهو قول علي - رضي الله عنه - لأن الإرث في المتروك بعد الوفاة والحق الضعيف لا يبقى بعد موته ليكون متروكاً عنه‏.‏

وعلى قول عمر - رضي الله عنه - يورث نصيبه لأن وارثه يخلفه فيما كان حقاً مستحقاً له ثم استدل على هذه الجملة بالآثار منها‏:‏ ما روى أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - بعث عكرمة بن أبي جهل في خمسمائة نفر مدداً لأبي أمية وزياد بن لبيد البياضي فأدركوهم حين افتتحوا النجير فأشركهم في الغنيمة وبه يستدل من يقول من أهل الشام إن للمدد شركة وإن أدركوهم بعد الفتح‏.‏

ولكنا نقول‏:‏ النجير هذا اسم قرية وهي كانت تابعة للبلدة فما لم تفتح البلدة لا تصير القرية دار الإسلام أو يحتمل أنهم أدركوا على أثر الفتح قبل إظهار حكم الإسلام فيها‏.‏

وفي مثل هذا تثبيت الشركة عندنا فأما بعد تمام الفتح فلا على ما روى عن طارق بن شهاب قال‏:‏ لما فتحت ماه دينار أمد أهل الكوفة بأناس عليهم عمار‏.‏

فأراد أن يشاركوهم في الغنيمة‏.‏

فقال رجل من بني عطارد‏:‏ أيها العبد الأجدع‏!‏ أتريد أن تشاركنا في غنائمنا فقال‏:‏ خير أذني سبب وإنما قال ذلك لأن إحدى أذنيه قطعت في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فكتب فيه إلى عمر رضي الله عنه فكتب عمر‏:‏ إن الغنيمة بين من شهد الوقعة وإنما قال ذلك لأن ماه دينار صارت دار الإسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها‏.‏

ألا ترى إلى ما روى أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد بن أبي وقاص‏:‏ من وافاك من الجند ما لم تتفقأ القتلى فأشركة في الغنيمة أي ما لم يتشقق القتلى بتطاول الزمان أو معناه ما لم يتميز قتلى المشركين من قتلى المسلمين بالدفن وفي بعض الروايات ما لم تتقفا القتلى أي تجعلهم على قفاك بالانصراف إلى دار الإسلام والأشهر هو الأول فإن الفقأ عبارة تفقأ فوقه القلع السواري وجن الخازباز به جنونا وذكر عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لجعفر بن علي بن أبي طالب ولمن معه من أهل السفينتين والدوسيين فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو مع سهمان أهل خيبر ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم المسلمين في حقوقهم أن يدخلوهم فسلوا فأسهم لهم هكذا روي مفسراً وفي هذا بيان أن من لحق بعد الفتح لم يكن له شركة لأنه لو كان شريكاً ما احتاج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن يسترضي المسلمين إلى أن يسهم لهم‏.‏

وروي أن أبان بن سعيد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية من المدينة قبل نجد فقدموا عليه بخيبر بعد الفتح فقال أبان‏:‏ اقسم لنا يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ اجلس يا أبان ‏"‏‏.‏

ولم يقسم لهم ففي هذا دليل على أن من أدرك بعد الفتح لم يكن له شرطة إلا أ يكون رسولاً بعثه الإمام في بعض حوائج أهل العسكر وقد بينا أنه في الحكم كالحاضر معهم‏.‏

وقد روي أنه أسهم لمحيصة وأصحابه من غنائم خيبر لأنه كان أرسلهم إلى فدك حين كان محاصراً أهل خيبر فرجعوا إليه بعد الفتح‏.‏

فأسهم لهم في الشق والنطاة وأطعمهم طعمة سوى ذلك من الخمس في الكتيبة جارية عليهم‏.‏

وقيل في ذلك تأويل آخر وهو أن غنائم أهل خيبر كانت عدة من الله تعالى لأهل الحديبية كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ‏}‏ فكل من كان من أهل الحديبية أسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم من غنائم خيبر من شهد فتحها ومن لم يشهد وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - من غنائم بدر وكان تخلف بالمدينة على ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية ليمرضها‏.‏

وأسهم لطلحة بن عبيد الله ولسعيد بن زيد وكان بعثهما نحو الشام يتجسسان أخبار عير قريش وأسهم لخمسة من الأنصار - وقد سماهم في الكتاب - وقد كان ردهم إلى المدينة لخبر بلغه عن المنافقين وفي تأويل ذلك وجوه أحدها‏:‏ أن المدينة يومئذ ما كان لها حكم دار الإسلام بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها لكثرة اليهود والمنافقين بها فكانوا جميعاً في دار الحرب مشغولين بما فيه منفعة للمسلمين وبما فيه فراغ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ إن غنائم بدر كان الأمر فيها مفوضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من يشاء ويحرم من شاء كما قال - تعالى -‏:‏ ‏{‏قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ‏}

فلهذا أسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم ذكر أن المنهزمين يوم حنين قد كانوا بلغوا إلى مكة ثم جاءت النصرة فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم وأن حرب حنين كان بعد فتح مكة فقد وصلوا إلى دار الإسلام ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسهم لهم فبهذا تبين أن للمدد شركة مع الجيش إذا أدركوا قبل إحراز الغنيمة بدار الإسلام‏.‏

قال‏:‏ ولا ينبغي للإمام أن يقسم الغنائم ولا يبيعها حتى يخرجها إلى دار الإسلام لأن بالقسمة تنقطع الشركة في حق المدد فيكون فيها تقليل رغبة المدد في اللحوق بالجيش وفيها تعريض المسلمين لوقوع الدبرة عليهم بأن يتفرقوا ويشتغل كل واحد منهم بحمل نصيبه فيكون عليهم العدو ثم القسمة والبيع تصرف والتصرف إنما يكون بعد تأكد الحق بتمام السبب وذلك لا يكون إلا بعد الإحراز بالدار‏.‏

وإن قسمها في دار الحرب جاز لأنه أمضى فصلاً مختلفاً فيه باجتهاده‏.‏

ثم استدل بحديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بالمدينة مع غنائم أهل نخلة وكانت تلك غنيمة أصيبت قبل بدر فوقفها رسول الله صلى عليه وسلم ومضى إلى بدر ثم رجع فقسم الغنيمتين بالمدينة جملة وفي رواية قال‏:‏ قسمها بسبر وهي شعب بمضيق الصفراء فإن كانت القسمة بالمدينة فهو دليل ظاهر لما قلنا‏.‏

وإن كانت بسبر فقد بينا أن دار الإسلام يومئذ كان الموضع الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏.‏

لأنه ما كان للمسلمين يومئذ منعة سوى ذلك‏.‏

فأما غنائم خبير فإنه لم يقسمها حتى أتى الجعرانة‏.‏

وروي أنهم طالبوه بالقسمة حتى ألجثوه إلى سمرة فتعلق بها رادؤه ثم جذبوا رادءه فتخرق فقال‏:‏ اتركوا إلى ردائي فوالله لو كانت هذه العضاة إبلا وبقراً وغنماً لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني جباناً ولا بخيلاً‏.‏

فقد أخر القسمة مع كثرة سؤالهم حتى انتهى إلى دار الإسلام فإن جعرانة قرية من قرى مكة وقد صارت مفتوحة بفتح مكة ففي هذا بيان أنها لا تقسم في دار الحرب‏.‏

ثم بين أن‏:‏ من شهد الوقعة فهو شريك في الغنيمة قاتل أو لم يقاتل مريضاً كان أو صحيحاً والأصل فيه حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ أرأيت الرجل يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه وترزقون إلا بضعفائكم‏!‏‏.‏

ونظير هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يؤثر عن ربه‏:‏ ‏"‏ لولا الصبيان الرضع والشيوخ الركع لصببت عليكم العذاب صباً ‏"‏ وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ أطيب كسب المؤمن سهمه في سبيل الله - تعالى - وصفقة يده وما تعطيه الأرض في هذا دليل على أنه ينبغي للغازي أن يظهر الرغبة في سهمه غنياً كان أو فقيراً قل سهمه أو كثر فإنه أطيب كسبه على معنى أنه مصاب بطريق فيه إعلاء كلمة الله - تعالى - وإعزاز الدين وذلك أشرف جهات إصابة المال والمراد بصفقة يده التجارة ولكنها بشرط أداء الأمانة ومراعاة حدود الشرع وما تعطيه الأرض المراد الزراعة فهي تجارة على ما قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ الزارع يتاجر ربه ‏"‏‏.‏

وإذا أراد الإمام قسمة الغنائم ينبغي أن يجعل عليها رجلاً من المسلمين عدلاً وصياً عالماً بالأمور مجرباً لها فإذا ميز الخمس جعل على الخمس أيضاً رجلاً أميناً حافظاً كاتباً عالماً لأنه يعجز بنفسه على مباشرة القسمة لكثرة أشغاله فيستعين بغيره ويختار لذلك من يكون أقدر على ما هو مقصود من الحفظ والقسمة وذلك بأن يكون مستجمعاً للشرائط التي قالها‏.‏

والأصل فيه ما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل محمية ابن جزء الزبيدي على خمس بني المصطلق وكانت تجمع إليه الأخماس وكانت الصدقات على حدة لها أهل وللفيء أهل وكان يعطي من الصدقة اليتيم والضعيف والمسكين‏.‏

فإذا احتلم اليتيم وجب عليه الجهاد نقل إلى الفيء وإن كره الجهاد لم يعط من الصدقة شيئاً وأمر بأن يكسب لنفسه‏.‏

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع سائلاً شيئاً فأتاه رجلان يسألانه عن خمس بني المصطلق فقال‏:‏ إن شئتما أعطيتكما منه ولاحظ فيه لغني ولا لقوي مكتسب‏.‏

ثم روي أن عبيدة السلماني كان يقسم أعطيات قومه ففضل بين رجلين درهم فقال‏:‏ اقترعا أيكما يأخذه‏.‏

فقام إليه رجل فساره‏.‏

فقال‏:‏ أتأمرهما أيهما يذهب بنصيب صاحبه‏.‏

فقال‏:‏ اذهبا فاشتريا وبه شيئاً بينكما فاقتسما‏.‏

وبه نقول أنه لا يجوز الإقراع في تعيين المستحق وأن المشترك إذا كان بحيث لا يحتمل القسمة بنفسه فإما أن يمسكه الشريكان مشتركاً بينهما نصفان أو يشتريا به شيئاً به فيقسمانه نصفين وكذلك إذا لم يعلم أنه لأيهما فإنه يجعل بينهما نصفين لاستوائهما في سبب الاستحقاق‏.‏

وذكر عن الأحنف بن قيس قال‏:‏ كنا بباب عمر - رضي الله عنه - فمرت جارية فتخشخش لها القوم أي تحركوا وأوسعوا لها‏.‏

فقالوا‏:‏ لعلها من أمهات أولاد أمير المؤمنين‏.‏

فقالت‏:‏ إني لا أحل لأمير إني من خمس مال الله - تعالى -‏.‏

فقلنا فيما بيننا‏:‏ ما يحل لأمير المؤمنين من مال الله - تعالى - الحديث‏.‏

‏.‏

‏.‏

إلى أن قال عمر - رضي الله عنه -‏:‏ إني أستحل من مال الله - تعالى - حلتين حلة بالشتاء وحلة بالصيف وظهري الذي أحج عليه وأعتمر‏.‏

وقوت أهلي وقوتي قوت أهل رجل من قريش ولا وكس ولا شطط ثم أنا شريك المسلمين بعد ففي هذا دليل على أن الإمام إنما يأخذ مقدار الكفاية من مال المسلمين ثم هو يساويهم فيما سوى ذلك‏.‏

لأنه بمنزلة الوصي في مال اليتيم وقال - تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ‏}‏ هاشم وبني عبد المطلب حتى كلمه عثمان بن عفان وجبير بن مطعم‏.‏

وقد بينا تمام ذلك في السير الصغير والذي زاد هاهنا‏.‏

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما‏:‏ إن بني عبد المطلب وبنو هاشم شيء واحد ففي هذا تنصيص على أن المراد قرب النصرة بالانضمام إليه في حال ما هجره الناس لأقر بالقرابة‏.‏

وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار جبريل عليه السلام في ذلك فأشار عليه أن يقسمه بين بني هاشم وبين بني المطلب‏.‏

وذكر عن مجاهد قال‏:‏ كان خمس الخمس لذوي القربى لأنهم كانوا لا يأكلون الصدقة‏.‏

والأول أصح لأن حرمة الصدقة عليهم كان بطريق الإكرام لهم فما كانوا يحتاجون إلى عوض ذلك ثم حرمة الصدقة في حق بني هاشم خاصة‏.‏

وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب أيضاً فعرفنا أن السبب قرب النصرة لما بيناه والله أعلم‏.‏

  باب ما يستعمل في دار الحرب ويؤكل ويشرب

وإن أصاب المسلمون غنائم في دار الحرب فليس ينبغي لواحد منهم أن ينتفع من ذلك بشيء إلا المأكول والمشروب لهم ولدوابهم ولا بأس بأن يذبحوا البقر والغنم ليأكلوا بغير خمس لأن حاجتهم إلى الطعام والعلف حاجة ماسة ولا يمكنهم أن يستصبحوا ذلك من دار الإسلام ولا يجدونها في دار الحرب بشراء وما يأخذون يكون غنيمة‏.‏

فلأجل الحاجة يصير ذلك مستثنى من شركة الغنيمة فيبقى على أصل الإباحة كما كان قبل الإصابة‏.‏

وهو نظير شركة المفاوضة فإنه يستثنى منها ما يشتري كل واحد منهما من الطعام والكسوة لنفسه وعياله حتى يختص بذلك العلم بوقوع الحاجة إلى ذلك في مدة الشركة‏.‏

والأصل فيه حديث عمر - رضي الله عنه - حيث كتب إلى عاماه جواب كتابه أن دع الناس يأكلوا ويعلفوا فمن باع شيئاً من ذلك فقد وجب فيه خمس الله وسهام المسلمين وروي هذا المعنى أيضاً عن فضالة بن عبيد وبه نأخذ‏.‏

فنقول‏:‏ إنما يباح التناول من ذلك للحاجة دون التجارة فما يدخل تحت التجارة بالبيع يكون بدله كسائر الغنائم فلا ينبغي لأحد أن يخص نفسه بذلك‏.‏

وذكر حديث سلمان حين أتاه غلامه بسلة يوم نهاوند‏.‏

فقال‏:‏ هاتها فإن كان مالاً دفعناه إلى هؤلاء وإن كان طعاماً أكلناه فإذا فيها أرغفة حواري وجبنة وسيكن‏.‏

فجعل سلمان يطرح لأصحابه من ذلك الخبز ويقطع لهم من جبنه فيأكلون ويخبرهم كيف يصنع الجبن ثم ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه رخص في الأكل وقال‏:‏ فإن خرجوا بشيء منه تصدقوا به والمراد إنما يتصدقون إذا قسمت الغنائم فأما قبل القسمة فيرد ذلك في المغنم لأن قبل القسمة يتيسر إيصاله إلى مستحقه بالإلقاء في الغنيمة وبعد القسمة يتعذر ذلك فيكون سبيله التصدق به كاللقطة‏.‏

إلا أن يكون محتاجاً فيأكله وإن أكله وهو غني تصدق بقيمته كما هو الحكم في اللقطة‏.‏

وقد روى ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنه -‏.‏

وذكر عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى اله عليه وسلم قال يوم خيبر‏:‏ ‏"‏ ردوا الخيط والمخيط‏.‏

وكلوا واعلفوا ولا تحملوا ‏"‏ ففيه دليل على أن ما سوى المأكول والمشوب يكون غنيمة لا يحل لأحد أن يختص بشيء منه فأما المأكول والمشروب فمستثنى في حكم الأكل خاصة لا في حكم الحمل والتصرف فيه ولهذا قال سليمان بن يسار‏:‏ بيع الطعام إذا خرج من أرض العدو من الغلول وكذلك بيعه في أرض العدو من الغلول إن لم يرد ثمنه في الغنيمة‏.‏

وذكر عن ابن أبي أوفى قال‏:‏ لم يخمس الطعام يوخيبر وكان الرجل يأخذ منه ما شاء ففي هذا دليل أنه مستثنى من أصل شركة الغنيمة حتى لا يجب فيه الخمس ويستوي في ذلك ما يكثر وجوده في ذلك الموضع وما يعز وجوده فيه بخلاف ما يقوله بعض أهل الشام أن هذه الإباحة تختص بطعام يكون في ذلك الموضع واعتمادنا فيه على حديث مكحول‏:‏ أن رجلاً نحر جزوراً بأرض الروم ثم نادى في الناس‏:‏ هلموا إلى هذا اللحم فخذوا منه فقال مكحول لرجل من غسان‏:‏ ألا تقوم فتأتينا من لحم هذا الجزور فقال‏:‏ إنها نهبى أي لم تخمس فقال مكحول‏:‏ إنه لا نهبى في المأذون فيه‏.‏

ومعلوم أن الإبل مما لايكون بأرض الروم وقد جوز نحورها والأكل منها فدل أن الأكل في ذلك سواء‏.‏

وعن مكحول قال‏:‏ كل ما حمل من أرض العدو مما لا قيمة له هناك فحمله في حاجة نفسه فهو له‏.‏

وهذا عندنا صحيح فيما لا قيمة له في دارنا أيضاً‏.‏

فعليه أن يرده في الغنيمة لأن بمجرد النقل من مكان إلى مكان لم تتبدل العين وإنما تمكن من إخراجه بقوة المسلمين فهو من جملة الغنائم‏.‏

وكأن مكحولاًَ جعل النقل محدثاً صفة التقوم فيه بمنزبة الصنعة حتى قال‏:‏ فا اقتطعت من شجر العدو فعلمته قدحاً أو مزرية أو مزادة فلا بأس به وما وجدت من ذلك معمولاً فرده في الغنيمة وبهذا نأخذ‏.‏

فإن المعمول مال متقوم بصنعته وقبل العمل لا يكون مالاً متقوماً فإذا صيره مالاً متقوماً بصنعته فهو لهخاصة بمنزلة من اتخذ الكوز من تراب غيره لكنا نفرق بين الصنعة والنقل لأن بالصنعة تتبدل العين فيكون المتقوم شيئاً آخر هو حادث بصنعته فأما بالنفل فلا تتبدل العين‏.‏

ثم روي أن الرسول صلى اله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إياكم وربا الغلول ‏"‏‏.‏

وفس ذلك بأن يركب دابة من الفيء حتى إذا أعجفها ردها في المغنم أو يلبس ثوباً حتى إذا خلق رده في المغنم أو ينكح الجارية قبل أن تحيض وبهذا نأخذ‏.‏

فإن ليس له أن يختص بشيء من هذه الأعيان قبل القسمة فكذلك بمنافعها‏.‏

وبالجزء الذي يفوت من عينها لتمكن النقصان باستعماله‏.‏

وذكر عن أبي الدرداء قال‏:‏ لا بأس بما أصابت السرية من الطعام أن يرجعوا به إلى أهلهم فأكلون ويهدون ما لم يبيعوا فكأنه جعل الإهداء من جملة الحاجة كالأكل ولسنا نأخذ بهذا فإن الأكل من أصول الحوائج تتحقق فيه الضرورة والإهداء ليس من أصول الحوائج فهو كسائر التصرفات‏.‏

وذكر أن البراء بن مالك أخذ سيفاً مما أصابوا يوم الزارة وقاتل به وبه نأخذ عند الحاجة بأن ينكسر سلاحه فأما إذا أراد الإبقاء على سلاحه والقتال بسلاح أخذه من العدو فهو من ربا الغلول لأن ما أخذه يكون غنيمة ولكن عند الضرورة لا بأس بأن يستعمله عند الضرورة في القتال‏.‏

ألا ترى أنه لو ضربه المشرك بسيف أخذه من يدهه وضربه به لم يكن به بأس قال‏:‏ ولا بأس بأ يوقح دابته ويدهن رأسه من المغنم وإنما أراد أن يفعل ذلك بما يؤكل من الزيت والسمن فإن له أن يختص بذلك العين أكلاً فكذلك له أن يختص به انتفاعاً بوجه أخر‏.‏

فأما سوى ذلك من الأدهان كالبنفسج والزنبق والخيري فليس له أن يدهن بشيء من ذلك لأن هذا مما لا يؤكل‏.‏

ألا ترى أنه لو وجد غالية أو باناً لم يكن له أن يستعمل هذا لأن هذا مما لا يؤكل وأما الزيت ونحوه فلا بأس بأن يأكله أويستصبح به في السراج فكذلك لا بأس بأن يدهن به‏.‏

وذكر أن رجلاً من المسلمين وجد يوم خبير دراهم في خربة فأخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس وبهذا نأخذ فإن واحداً من الغانمين إذا وجد في دار الحرب راكازاً أو معدناً فهو غنيمة لأنه ما توصل إلى ذلك المكان واستخراج ذلك المال إلا بقوة المسلمين‏.‏

فإن نهى الإمام الجيش أن يأكلوا من البقر أو الغنم أو غيرهما وأقسم عليهم أن لا يفعلوا ذلك حتى يقسم فعلتهم طاعته ولا يحل لهم أن يتعرضوا لشيء منه لأن الإمام مجتهد فيما يأخذ عليهم الميثاق به وبتنصيصه ينعدم معنى الاستثناء في هذا المال من شركة الغنيمة فيكون حكمه كحكم سائر الغنائم‏.‏

إلا أنه ينبغي للإمام أن ينظر لهم فإذا عرف حاجتهم إلى ذلك أخذ منه الخمس وقسم ما بقي ليتناول كل واحد منهم من نصيبه فإن الحاجة إلى ذلك قد تحققت وعند الضرورة تجوز القسمة في دار الحرب والله أعلم‏.‏

قال‏:‏ الإمام بالخيار في الرجال من أسارى المشركين بين أن يقتلهم وبين أن يخمسهم ويقسم بين من أصابهم وكان الحسن - رضي الله عنه - يكره قتل الأسير إلا في الحرب ليهيب به العدو وحماد بن أبي سليمان - رحمه اتلله - كان يكره قتل الأسير بعدما وضعت الحرب أوزارها‏.‏

وجه قولهما إن إباحة القتل لدفع محاربتهم‏.‏

قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ‏}‏ وقد اندفع ذلك بالأسر وانقضاء الحرب فليس في القتل بعد ذلك إلا إبطال حق المسلمين بعدما ثبت في رقابهم حق لا يجوز‏.‏

واستدلوا على ذلك بما روي أن عبد الله بن عامر بعث إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - بأسير ليقتله فقال‏:‏ أما والله مصرواً فلا أقتله‏.‏

يعني بعدما شددتموه وأسرتموه فلا أقتله وقال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ‏}‏ وإنما أمرنا بالقتال إلى غاية الأسر ثم جعل الحكم بعد ذلك المن أو الفداء‏.‏

ودليلنا على جواز القتل بعد الأسر قصة بني قريظة‏.‏

فقد قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الأسر وبعدما وضعت الحرب أوزارها وقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بالأثيل وكان من أساري بدر وقتل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - معبد بن وهب وقد كان أسره أو بردة ابن نيار يوم بدر فسمعه يقول‏:‏ يا عمر‏!‏ أتحسبون أنكم غلبتم‏!‏ كلا واللآت والعزى‏.‏

فقال‏:‏ أتقول هذا وأنت أسير في أيدينا ثم أخذه من أبي بردة وضرب عنقه ولأن الأمن عن القتل إنما يثبت بالأمان أو بالإيمان وبالأسر لا يثبت شيء من ذلك فبقي مباح الدم علي ما كان قبل الأسر وهو بالأسر لم يخرج من أن يكون محارباً ولكنه عجز عن المحاربة لكونه مقهوراً في أيدينا مع قيام السبب الذي يحمله على ذلك وهو المخالفة في الدين‏.‏

فيجوز قتله كالمرتد المقهور في أيدينا وقوله - تعالى -‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ منسوخ‏.‏

هكذا نقل عن السدي أنه نسخه قوله - تعالى -‏:‏ ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}

وتأويل حديث ابن عمر أنه كره قتله مشدود اليدين لا أن يقال‏:‏ تحرز عن قتله يعدما أسر ونحن هكذا نقول‏:‏ الأولى أن لا يقتل مشدود اليدين إذا كان لا يخاف أن يهرب أو يقتل بعض المسلمين ثم يستوي في ذلك ما بعد الإحراز بدار الإسلام وما قبله لانعدام السبب الموجب لحرمه دمائهم‏.‏

فإن الحق لا يتأكد للمسلمين في الأساري بعد الإحراز بالدار ألا ترى أن للإمام أن يجعلهم أحرار الأصل بأن يمن عليهم برقابهم وأراضيهم ويضع الجزية عليهم والخراج على أراضيهم كما فعل عمر - رضي اللهعنه - بالسواد‏.‏

وإذا لم يتأكد الحق فيهم كان الحكم فيهم بعد الإحراز كالحكم قبله والإمام ناظر للمسلمين فإن رأى الصواب في قسمتهم قسمهم وإن رأى الصواب في قتلهم لدفع فتنتهم‏.‏

قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ ومن أسلم منهم حرم قتله لقوله - تعالى -‏:‏ ‏{‏فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}

وقد خرج بالإسلام من أن يكون ظالماً وقال عليه السلام‏:‏ فإذا قالها فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم ولكنه يقسم بين المسلمين لأن الإسلام يؤمنه من القتل ولكن لا يبطل الحق الثابت فيه للمسلمين وقد كان الإمام مخيراً بين القتل والقسمة فإذا تعذر أحدهما بالإسلام تعين الآخر‏.‏

وأيما مسلم قتل أسيراً قبل أن يسلم أو يباع أو يقسم فلا شيء عليه لأنه أراق دماً مباحاً فهو كمن قتل مرتداً أو مقضياً عليه بالرجم‏.‏

ولكن يكره له ذلك لأنه إن كان الأسير غيره فهو بالقتل يفوت عليه يده فيه وذلك ممنوع‏.‏

بحديث جابر - رضي الله عليه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا يتعاطى أحدكم أسير صاحبه إذا أخذه قبله فيقتله ‏"‏ ولكن مع هذا لا شيء عليه لأنه أزال يده عما ليس بمال متقوم لحقه فهو كمن أراق خمراً على مسلم وهو يمسكه للتخليل‏.‏

وإن كان هو الذي أسره فهو في القتل يفتات على رأي الإمام ويبطل الخيار الثابت له وذلك مكروه وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ ليس للمرء إلا ما طابت به نفس إمامه ‏"‏ إلا أن يعالجه الأسير ويقصد الانفلات من يده حتى يعجزه عن أن يأتي به الإمام فحينئذ لا بأس بأن يقتله قد فعل ذلك غير واحد من الصحابة وإن أسلم في يده فهو آمن من القتل وهو رقيق فإن قسم الإمام الأسارى أو باعهم حرمت دماؤهم لأنه آمنهم بما صنع فإنه ملكهم من الذين وقعوا في سهامهم والملك يكون محترماً بحرمة المالك‏.‏

فمن قتلهم بعد ذلك خطأ فعليه قيمة من قتل والكفارة كما هو الحكم في قتل غيرهم من عبيد المسلمين بخلاف ما قبل القسمة والبيع فهناك الملك لم يثبت لمن في يده الأسير فإذا قتله غيره لا يلزمه شيء وإنكره ذلك لحرمة يد المسلم‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر‏:‏ ‏"‏ لا تخبروا سعداً بقتل أخيه فيقتل كل أسير في أيديكم ‏"‏ وذكر عن محمد بن إبراهيم التيمي قال‏:‏ ردت الغنائم في المغنم يوم بدر وأقرت الأساري في أيدي من أسرهم والأسلاب في أيدي من قتلهم‏.‏

وإنما فعل ذلك لأن التنفيل كان قد سبق من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏"‏ من قتل قتيلاً فله سبله ومن أسر أسيراً فهو له ‏"‏ فأما إذا لم يسبق التنفيل من الأمير بذلك فكل ذلك مردود في المغنم‏.‏

وإن رأى الإمام قتل الأساري فينبغي له أن لا يعذبهم بالعطش والجوع ولكنه يقتلهم قتلاً كريماً يعني لا ينبغي أن يمثل بهم فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور‏.‏

وقال عليه السلام في بني قريظة بعدما احترق النهار في يوم صائف‏:‏ ‏"‏ لا تجمعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح قيلوهم حتى يبردوا فقتلوهم حتى أبردوا ثم راحوا ببقيتهم فقتلوهم وقد كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر فنثرت بين أيديهم فكانوا يكدمونها كدم الحمر قال‏:‏ وليس ينبغي للإمام أن يمن على القتيل فيتركه ولا يقتله ولا يقسمه لأنه لو أراد إبطال حق المسلمين عنه بأن يختص به أحدهم لم يكن له ذلك فإذا أراد إبطال حق جميع المسلمين بالمن عليه أولى أن يكون ممنوعاً منه‏.‏

وهذا لأن في المن تمكينه من أن يعود حرباً للمسلمين بعد الظهور عليه وذلك لا يحل‏.‏

وقد بينا أن حكم المن الثابت بقوله - تعالى‏.‏

{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء‏}‏ قد انتسخ بقوله - تعالى - ‏{‏فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ والذي روى أن النبي صلى الله عليه وسلم من على أبي غزة الجمحي يوم بدر فقد كان ذلك قبل انتساخ حكم المن ألا ترى أنه لما وقع أسيراً يوم أحد وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمن عليه أبى وقال‏:‏ ‏"‏ لا تحدث العرب بأني خدعت محمداً مرتين ثم أمر به فقتل ‏"‏ وذكر محمد - رحمه الله - للحديث تأويلاً آخر وهو‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقاتل عبدة الأوثان من العرب وأولئك ما كان يجري عليهم حكم السبي وإنما من على بعض الأسراء لأنه ليس فيه إبطال حق ثابت للمسلمينفي رقابهم‏.‏

ونحن نقول به في مثلهم من المرتدين وعبدة الأوثان من العرب الذين لا يقبل منهم إلا السيف أو الإسلام فإنهم إن أسلموا كانوا أحراراً وإن أبوا قتلوا وإن رأى الإمام النظر للمسلمين في المن عليهم على بعض الأسارى فلا بأس بذلك أيضاً لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثالة الحنفي حين أسره المسلمون وربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ ما وراءك يا ثمامة ‏"‏ فقال‏:‏ إن عاقبت عاقبت ذا ذنب وإن مننت على شاكر وإن أردت المال فعندي من المال ما شئت فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط أن يقطع الميرة عن أهل مكة ففعل ذلك حتى قحطوا والدليل عليه أن له أن يمنعلى الرقاب تبعاً للأراضي لأن فيه منفعة للمسلمين من حيث الجزية والخراج فعرفنا أنه يجوز ذلك عند المنفعة للمسلمين وذكر‏:‏ عن جابر - رضي الله عنه - قال‏:‏ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين فنزلنا منزلاً للمقيل ثم دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئته وعنده رجل جالس فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ إن هذا جاء وأنا نائم فسل سيفي ثم قال‏:‏ يا محمد من يمنعك مني اليوم فقلت‏:‏ الله ثم قال‏:‏ يا محمد‏!‏ من يمنعك مني اليوم فقلت‏:‏ الله ثم شام السيف‏.‏

وهاهو جالس‏.‏

فما قال له النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ولا عاقبة وتأويل ذلك أنه حين سقط السيف من يده وتبين له الحق أسلم فلهذا لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إنما تمكن منه النبي صلى الله عليه وسلم بتأييد إلهي لا بقوة المسلمين فرأى أن يمن عليه رجاء أن يسلم‏.‏

وإذا قال الأمير‏:‏ من أخذ أسيراً فهو له فوجد الأسير في يد رجلين كل واحد منهما يدعيه فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق‏.‏

إلا أن يكون عقره أحدهما بعينه وأخذه الآخر فإنه إن كان عقر عقراً لا يقدر على البراح فهو للذي عقره لأنه صار مأخوذاً بفعله‏.‏

وإن كان يقدر معه على الفرار فهو للذي أخذه لأنه لم يصر مأخوذاً بفعل الأول ونظيره الصيد إذا رماه إنسان فأثخنه ثم أخذه آخر‏.‏

وروى حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال‏:‏ رميت يوم بدر سهيل بن عمرو فانقطع نساه ثم اتبعت أثر الدم حتى وجدته في يد مالك بن الدخشم وقد جز ناصيته فاختصمنا فيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم منا وإنما أخذه منهما لما بينا أن غنائم بدر كانت مخالفة لسائر الغنائم كمن حيث إن الأمر فيها لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي من شاء ويحرم من شاء‏.‏

وذكر عن يحيى بن أبي كثير‏:‏ قال‏:‏ قلت للحسن البصري‏:‏ أرأيت رجلاً من المسلمين اشترى أسيراً من المسلمين أيصلح له أن يربح فيه قال‏:‏ لا وبه نأخذ‏.‏

فإن المسلم وإن وقع أسيراً فهو حر على حاله ومن اشتراه من العدو لا يملكه فكيف يربح عليه ولكن إن اشتراه بغير أمره فهو متطوع فيما أدى من فدائه فعليه أن يخلي سبيله وإن اشتراه بأمره فإنه يرجع عليه بالثمن الذي اشتراه به وهذا استحسان وفي القياس لا يرجع عليه إلا أن يشترط ذلك نصاً لأن مجرد الأمر متنوع قد يكون لطلب الإحسان والأخذ بمكارم الأخلاق وقد يكون للاستقراض ولكنه عين جهة الاسقراض للعادة الظاهرة فيه بمنزلة من أمر غيره أن ينفق على عياله من مال نفسه ثم يصير هذا رواية في فصل اختلف فيه المشايخ وهو أن السلطان إذا صادر رجلاً فأمر الرجل غيره أن يؤدي المال فقد قال هناك بعض مشايخنا‏:‏ لا يثبت له حق الرجوع إلا بشرط لأن المال ما كان واجباً على الآمر وإنما كان مظلوماً فيه ومن دفع ظلماً عن غيره بسؤاله لم يرجع عليه بشيء ولكن الأصح أن يرجع عليه فإن أهل الحرب ظالمون في حبس الأسير أيضاً ومن اشتراه منهم فقد دفع ظلمهم عنه ومع ذلك يثبت له حق الرجوع عليه إذا كان بأمره‏.‏

وذكر عن بشر بن غالب‏:‏ قال‏:‏ سئل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - متى يجب السهم للمولود قال‏:‏ إذا استهل يريد به نصيبه من الميراث‏.‏

فإنه إنما يستحق ذلك إذا انفصل حياً وإنما يعلم ذلك بالاستهلال‏.‏

وسئل عن فكاك الأسير فقال على الأرض التي يقاتل عنها يعني من خراج تلك الأرض لأنه قبل الأسر كان يذب عن أهل تلك الأرض فهم أولى بفكاكه ليكون الغرم بمقابلة الغنم وإنما يفك من الخراج لأنه معد لنوائب المسلمين وسد خلة المحتاجين منه‏.‏

وهذا من جملة ذلك‏.‏

وسئل عن الشرب قائماً فحلب ناقة ثم ضرب قائماً وإنما قصد البيان بفعله أنه لا بأس بذلك وقد اقتدى فيه بأبيه علي - رضي الله عنه - فإنه حين بلغه عن قوم أنهم يكرهون الشرب قائماً توضأ في رحبة المسجد بالكوفة ثم أخذ الإناء وشرب فضلة فيها قائماً وكان قصده من ذلك رد قولهم في كراهة شرب الماء قائماً‏.‏

وذكر أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أتى بأسير يوم صفين فقال‏:‏ لا تقتلني قال‏:‏ لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين وجعل سلاحه للذي جاء به‏.‏

وإنما جعل ذلك ليتقوى به على العدو حتى إذا وضعت الحرب أوزارها رده على صاحبه أن كان حياً وعلى ورثته إن كان ميتاً وهو أيضاً تأويل ما نقل عن الشعبي - رضي الله عنه - أن علياً - رضي الله عنه - لم يغنم من أموال أهل الجمل إلا الكراع والسلاح أي دفع ذلك إلى أصحابه ليتقووا به على عدوهم من غير أن يملكهم ذلك فإن مال المسلم لا يصير غنيمة للمسلمين بحال‏.‏

ألا ترى أنه لم يخمس شيئاً من ذلك وأنهم لما طالبوه القسمة بينهم قال‏:‏ فمن يأخذ منكم عائشة وإنما قال ذلك على وجه الإنكار عليهم فعرفنا أنه دفع السلاح إلى من دفع لحاجته حتى يقاتل به ثم يرده على صاحبه بعدما وضعت الحرب أوزارها‏.‏

وإذا وقع الظهور على قوم من مشركي العرب فقد بينا أنه لا يقبل من رجالهم إلا السيف أو الإسلام‏.‏

فأما نساؤهم وصبيانهم فهم فيء لا يجبرون على الإسلام لقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم ‏"‏ والمراد بالاستحياء الاسترقاق قال الله - تعالى -‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ‏}‏

والمراد بالشرخ النساء والصبيان ثم قد بينا أن حالهم كحال المرتدين والنساء والذراري من المرتدين بعدما صاروا أهل حرب يسترقون بخلاف الرجال إلا أن أولئك يجبرون على الإسلام لأن حكم الإسلام قد لزمهم فأما عبدة الأوثان من العرب فلم يسبق منهم الإقرار بالإسلام فلهذا لا يجبر على الإسلام من استرق من ذراريهم‏.‏

ثم كل من يجوز استرقاقه من الرجال يجوز أخذ الجزية منه بعقد الذمة كأهل الكتاب وعبدة الأوثان من العجم ومن لا يجوز استرقاقه لا يجوز أخذ الجزية منه كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب لأن في كل واحد منهما إبقاء الكافر بمنفعة تحصل للمسلمين من حيث المال والأصل فيه حديثان أحدهما‏:‏ حديث الزهري قال‏:‏ لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل من أحد من أهل الأوثان من العرب الجزية إلا الإسلام أو القتل‏.‏

والثاني‏:‏ حديث معاذ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين‏:‏ ‏"‏ لو ثبت على أحد من العرب ولاء أو رق لثبت اليوم ولكن إنما هو القتل أو الفداء وقد بينا أن حكم الفداء قد انتسخ فبقي القتل إلا أن يسلم ‏"‏‏.‏

وإذا وقع السبي في سهم رجل من المسلمين فأخرج مالاً كان معه لم يعلم به فينبغي للذي وقع في سهمه أن يرده في الغنيمة لأن الأمير إنما ملكه بالقسمة رقبة الأسير لا ما معه من المال فإن ذلك لم يكن معلوماً له وهو مأمور بالعدل في القسمة وإنما يتحقق العدل إذا كانت القسمة لا تتناول إلا ما كان معلوماً له‏.‏

فإن تفرق الغانمون وذلك السبي مما لا يحتمل القسمة لقلته فليتصدق به على المساكين لأنه عجز عن إيصاله إلى صاحبه فيكون بمنزلة اللقطة في يده يتصدق به هكذا نقل عن مكحول‏:‏ أنه قال لمن ابتلى بذلك‏:‏ ما أرى وجها أحسن من أن يتصدق به والذي روى إن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد أعطى ذلك من وقع الأسير في يده‏.‏

فتأويله أنه إنما أعطاه لأنه لم يعلم أن ذلك لم يكن معلوماً للذي قسم الغنيمة بين الغانمين‏.‏

وإنما حسب أن الذي قسم أعطاه ذلك بنصيبه مع الأسير الذي أعطاه إياه‏.‏

وذكر أن رجلاً اشترى جارية من المغنم فلما رأت أنها قد خلصت له أخرجت حلياً كان معها فقال الرجل‏:‏ ما أدري هذا وأتى سعد بن أبي وقاص فأخبره فقال‏:‏ اجعله في غنائم المسلمين وانطلق آخر يغتسل فأمر الماء التراب عن لبنة من ذهب فأتى سعداً فأخبره فقال‏:‏ اجعلها في غنائم المسلمين وبه نأخذ فإن المال الذي مع الأسير كان غنيمة وبيع الأمير إنما تناول الرقبة دون المال فيبقى المال غنيمة‏.‏

ومن وجد في دار الحرب كنزاً وقد دخل مع الجيش فإن ذلك يكون غنيمة لأنه ما تمكن من ذلك المال إلا بقوة المسلمين‏.‏

وإذا وقعت الجارية من السبي في سهم رجل فقالت‏:‏ أنا جارية ذمية سباني أهل الحرب ثم أخذني المسلمون ولا يعلم ذلك إلا بقولها لم يقبل قولها لأنها صارت رقيقة حين سبيت من أرض العدو فلا يقبل قولها في إسقاط الرق عنها‏.‏

ولا بأس بأن يطأها مولاها بالملك ويبيعها حتى تقوم البينة العادلة على ما قالت لأن كل مسلم مأمور باتباع الظاهر ما لم يتبين غير ذلك بالحجة وذكر عن الحسن - رضي الله عنه - أنه قال للسائل في هذه الحادثة‏:‏ لا تقع عليها وبعها فإنما كره مواقعتها على طريق التنزه لا لأنه لم يرها حلالاً له ألا ترى أنه أمره ببيعها ولو رآها حرة كما زعمت ما أمر ببيعها‏.‏

وإذا ظهر الإمام على أرض من أرض المشركين فهو بالخيار إن شاء خمسها وخمس أهلها وقسم أربعة أخماس ذلك بين من أصابها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بخيبر وأن فعل ذلك كانت الأراضي أرض عشر لأن المسلم لا يبتدىء بتوظيف الخراج عليه وإنما يوضع عليه العشر لأن فيه معنى الصدقة‏.‏

وإن شاء تركها وأهلها يؤدون منها الخراج كما فعل عمر - رضي الله عنه - بأرض السواد وأرض الشام وما خالفه في ذلك إلا نفر يسير ولم يحمدوا على خلافه حتى دعا عليهم فقال‏:‏ اللهم اكفني بلالاً وأصحابه فما حال الحول وفيهم عين تطرف‏.‏

يعني مالوا في الطاعون وقد بينا تمام هذا في السير الصغير‏.‏

وذكر أن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى سعد بن أبي وقاص‏:‏ أما بعد فقد بلغني كتابك يذكر أن الناس قد سألوا أن تقسم بينهم غنائمهم فانظر ما أجلب الناس عليك من كراع أو سلاح فاقسمه بين من حضر من المسلمين واترك الأرض والأنهار لعمالها وبه نأخذ وإنما أصيب قبل لفتح والظهور وقد تحقق انفصاله عن أهل الأرض وخروجه من أيديهم فيجب قسمة ذلك بين الغانمين ولا يبطل ذلك بفتح الأرض والمن على أليها قال‏:‏ وانظر أن لا توله والدة عن ولدها أي لا تفرق بين الصغير ووالدته وبنحو هذا جاء الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى جارية والهة في الغنيمة فقال‏:‏ ما حالها فقال‏:‏ بيع ولدها قال‏:‏ لا توله والدة بولدها‏.‏

قال‏:‏ ولا تمس امرأة حتى يطيب رحمها أي حتى يستبريها وهو نظير ما جاء في الأثر‏.‏

ولا الحبالى حتى تستبرئن بحيضة‏.‏

قال‏:‏ ولا تتخذ أحداً من المشركين كاتباً على المسلمين فإنهم يأخذون الرشوة في دينهم ولا رشوة في دين الله وبه نأخذ فإن الوالي ممنوع من أن يتخذ كاتباً من غير المسلمين لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ ولا عشر على مسلم ولا على صاحب ذمة إنما العشور على أهل الحرب إذا استأذنوا أن يتجروا في أرضنا وفي هذا نظر فقد اشتهر عن عمر - رضي الله عنه - أنه أمر عماله أن يأخذوا من أهل الذمة نصف العشر فإن صح هذا الحديث فالمراد أنه ليس على أهل الذمة العشر الكامل في أموال التجارة إذا مروا به على العاشر وإنما ذلك على أهل الحرب خاصة فأما أهل الذمة فعليهم نصف العشر‏.‏

وذكر عن مجاهد قال‏:‏ أيما مدينة فتحت فأسلم أهلها قبل أن تقسم فهم أحرار وتأويل ذلك فيما إذا كانوا مرتدين أو عبدة الأوثان من العرب أو كان رأي الإمام أن يدعهم في أرضهم يؤدون الخراج فأما إذا رأى الإمام أن يقسمهم وأرضهم فهم عبيد لما بينا أنهم أسلموا بعد تمام القهر وذلك يؤمنهم من القتل ولا يبطل حق المسلمين عن رقابهم والله أعلم بالصواب‏.‏